لم تعد الضربات الإسرائيلية التي تشنها منذ فجر الجمعة الماضي داخل العمق الإيراني مجرد استعراض للقوة أو تصفية لحسابات استخباراتية، فمع استهداف منشآت نووية حساسة كمفاعلَي “نطنز” و”فوردو”، ارتفعت مؤشرات القلق من تحول الضربة العسكرية إلى كارثة بيئية عابرة للحدود، وبجوار الأهداف المحصّنة تحت الأرض، ينبض شبح غير مرئي: التسرب الإشعاعي.
في عالم تُراقبه الأقمار الصناعية دون تحقق ميداني مستقل، يصبح الصمت الإشعاعي مؤقتًا، وربما خادعًا. ضربة واحدة خارجة عن الحسابات قد لا تدمّر البرنامج النووي الإيراني، لكنها قد تُطلق العنان لموجة تلوث تمتد من طهران إلى الخليج، تهدد المياه والموانئ وسلاسل الإمداد الحيوية.
في هذا التقرير، نحاول تجاوز العناوين العسكرية والإجابة عن سؤال تتجنبه السياسات لكنه يقضّ مضاجع البيئة والصحة الإقليمية: ماذا لو تسرّب الإشعاع النووي الإيراني إلى مياه الخليج؟
التأثير الإشعاعي المحتمل على الدول العربية
بقلق متزايد، يتابع العالم تداعيات التصعيد الإسرائيلي الإيراني الذي بلغ ذروته في الأسابيع الأخيرة، بعدما استهدفت تل أبيب، ضمن ضربات نوعية، مواقع نووية حساسة داخل إيران، من بينها منشآت نطنز وفوردو وآراك.
ورغم أن الأضرار لم تُعلن رسميًا، فإن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أكدت أنها “حددت عناصر إضافية تشير إلى تأثيرات مباشرة على قاعات التخصيب تحت الأرض في نطنز”، وهو تصريح فتح الباب أمام احتمالات كانت مستبعدة حتى وقت قريب، أبرزها: وقوع تسرّب إشعاعي.
حين تُطرح فرضية كهذه، فإن النظر يذهب تلقائيًا إلى ما هو أبعد من حدود إيران، فالتجارب التاريخية أثبتت أن الإشعاع، بحكم طبيعته الفيزيائية، يتجاوز الحواجز الجغرافية، ويتنقّل عبر الهواء والمياه والتربة بحسب معطيات الطقس والتضاريس.
الإشعاعات التي قد تنبعث من حادثة تسرّب – في حال حدوثها – غالبًا ما تتكوّن من نظائر مشعة مثل اليود-131 والسيزيوم-137، وهما من أخطر المواد النووية في مثل هذه السيناريوهات.
ويتميز اليود-131 بعمر نصف قصير (حوالي 8 أيام)، لكنه يمتص بسرعة في الجسم ويتراكم في الغدة الدرقية، ما يزيد خطر الإصابة بسرطان الغدة، خاصة لدى الأطفال. أما السيزيوم-137، فيمكن أن يبقى في البيئة لعقود، ويتراكم في التربة والمياه والمزروعات، ما يجعله مصدر تهديد بيئي طويل الأمد.
إقليميًا، تُظهر النماذج المناخية أن الرياح الصيفية في إيران تتجه غالبًا من الشرق نحو الغرب والشمال الغربي، ما يضع جنوب العراق في مقدّمة المناطق التي قد تتأثر خلال الأيام الأولى، في حال انتقلت جسيمات مشعة عبر الغلاف الجوي.
هذه الجسيمات – المعروفة باسم “fallout” – يمكن أن تقطع مسافات تتراوح بين 100 إلى 1000 كيلومتر خلال يوم إلى ثلاثة أيام، تبعًا لشدة الرياح وارتفاع طبقة الانبعاث.
في حال تحقق هذا السيناريو، فإن دائرة التأثر قد تشمل أيضًا الكويت، والمنطقة الشرقية من السعودية، وربما الأردن وسوريا، خاصة إذا ترافقت حركة الغيمة المشعة مع تساقط الأمطار، ما يعزز ترسيب الملوّثات من الجو إلى الأرض، كما حدث في كارثة تشيرنوبل عام 1986.
ولا تقتصر الآثار المحتملة على التلوث اللحظي، بل تتعداها إلى تداعيات بيئية طويلة الأمد. فالتربة الزراعية قد تحتفظ بهذه النظائر لعقود، ما يؤثر على سلامة المحاصيل ويهدد سلاسل الإمداد الغذائي في العراق والكويت والأردن. أما المياه الجوفية والسطحية، فتتأثر إما عبر الترشّح من التربة أو من خلال الأمطار، ما يهدد مصادر مياه الشرب والزراعة في منطقة تعتمد أصلًا على مصادر محدودة وغير مستقرة من المياه.
الخليج تحت التهديد: تلوّث إشعاعي يختبر أمن المياه
في منطقة تعتمد على البحر كمصدر شبه حصري لمياه الشرب كالخليج، لا تبدو فرضية تسرّب إشعاعي مسألة نظرية فقط، بل سيناريو له تبعات مادية محتملة خلال أيام قليلة من وقوعه، فدول الخليج، بما فيها السعودية، الإمارات، قطر، والكويت، تعتمد بنسبة تفوق 90% على محطات تحلية مياه البحر. هذه المحطات، ورغم تطورها، لم تُصمَّم أصلاً للتعامل مع كميات كبيرة من الجسيمات النووية المشعة.
حيث تعتمد سرعة انتقال التلوث إلى دول الخليج على حركة الرياح والتيارات البحرية. إذ تشير النماذج المناخية إلى أن الإمارات وقطر والكويت، إلى جانب المنطقة الشرقية من السعودية، ستكون الأكثر عرضة، خاصة إذا تزامن الانبعاث مع أمطار أو عواصف غبارية. أما سلطنة عُمان والبحرين، فهما أقل انكشافًا في المدى القريب، لكنهما غير محصنتين من التأثيرات التراكمية.
وفي حال وصول التلوث إلى مياه الخليج، سواء عن طريق الغلاف الجوي أو عبر الأنهار القادمة من إيران والعراق، فإن الخليج المغلق نسبيًا، وضحالة عمق مسطحاته المائية، وبطء تجدد مياهه، تجعل منه خزانًا حساسًا لأي ترسيب إشعاعي. حيث يُعرف الخليج بأنه من أبطأ المسطحات البحرية تعافيًا من التلوث، سواء كان نفطيًا أو نوويًا، نتيجة حركة تياراته المحدودة.
فيما تشير التحذيرات العلمية المتوافرة حاليًا إلى أن الجسيمات المشعة مثل السيزيوم-137 واليود-131، والتي قد تنبعث من أي خلل نووي، قادرة على الالتصاق بالرواسب البحرية والبقاء لسنوات. حتى مع إزالة 90% من هذه المواد في محطات التحلية، ورغم أن محطات التحلية قادرة على إزالة معظم هذه المواد، إلا أن الكميات الضئيلة التي قد تفلت من المعالجة مما يؤثر بشكل تراكمي على صحة المستهلكين.
أيضًا، تمتد الأضرار لتنعكس على حركة النقل البحري والتجارة الإقليمية والدولية، لا سيما أن الممرات المائية في المنطقة – وفي مقدمتها مضيق هرمز – تمثل شريانًا حيويًا لإمدادات الطاقة العالمية. لذا فإن أي إشارة إلى تلوث بيئي في هذه السواحل قد تدفع شركات الشحن إلى تغيير مساراتها، أو تفرض قيودًا مؤقتة على المرور والتفريغ، ما يخلق ضغوطًا على الاقتصاد الإقليمي والدولي في آنٍ معًا.
بوشهر: الخطر الأقرب إلى الخليج
حين يُطرح سؤال: “ما المنشأة النووية التي تشكّل الخطر الأكبر على مياه الخليج؟” لا تأتي الإجابة من عمق الجبال، بل من الساحل مباشرة. فمفاعل بوشهر، الواقع على بعد أقل من 20 كيلومترًا من مياه الخليج، هو الأقرب جغرافيًا، والأكثر ارتباطًا بخطر التسرّب البحري، في حال تعرّض لأي خلل أو استهداف.
بدأ بناء المفاعل بوشهر في عهد الشاه قبل الثورة الإيرانية، لكنه لم يُستكمل إلا في العقدين الأخيرين بالتعاون مع روسيا. ودخل الخدمة رسميًا عام 2011، إذ يعمل حاليًا بطاقة تقارب 1000 ميغاواط، مع خطط لتوسعة مفاعلاته في مراحل لاحقة. فيما يُصنف المفاعل كمنشأة مدنية خاضعة لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لكنه يبقى محاطًا بغموض تصفه إيران “الاستراتيجي”.
بخلاف منشآت مثل فوردو أو نطنز، لا يقع بوشهر تحت الجبال أو في مناطق نائية، بل في منطقة مفتوحة وقريبة من ساحل الخليج، وهو ما يجعل أي تسرّب محتمل فيه مرشحًا للانتقال البحري المباشر.
وإذا ما أصيب المفاعل – سواء نتيجة عمل عسكري أو خطأ فني – فقد تنتقل المواد المشعة بسرعة عبر مياه الخليج، خاصة أن التيارات البحرية في المنطقة بطيئة نسبياً، والتبادل المائي محدود.
القلق لا يتوقف عند احتمالية استهدافه. فبوشهر يقع في منطقة نشطة زلزاليًا، وتشير دراسات جيولوجية إلى أنه في نطاق صدع نشط قد يتأثر به في حال حدوث زلزال متوسط أو كبير.
ورغم أن المفاعل صُمم لتحمل الهزات الأرضية، لكن الحوادث النووية الكبرى تاريخيًا – من تشيرنوبل إلى فوكوشيما – وقعت رغم تدابير الأمان، وغالبًا بسبب تداخل أكثر من عامل طارئ في اللحظة نفسها.
رئيس الوزراء القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، حذّر في مارس/ آذار الماضي من أن استهداف المفاعلات النووية الإيرانية، وفي مقدمتها بوشهر، قد يؤدي إلى تلوّث مياه الخليج بدرجة تجعلها غير صالحة للشرب في غضون أيام.
وقال الوزير القطري بوضوح: “لا ماء، لا حياة”، في إشارة إلى اعتماد دول الخليج شبه الكامل على التحلية، وخطورة المساس بالمصدر الوحيد للمياه في واحدة من أكثر مناطق العالم جفافًا.
اليوم، أمام سيناريو لا يستبعده العلم ولا تطمئن له الجغرافيا، تبدو الحاجة إلى خطة طوارئ عربية – أو على الأقل خليجية – أكثر من ضرورية. فالتعامل مع حادث نووي عابر للحدود لا يمكن أن يُترك للارتجال أو ردود الفعل المتأخرة.
المطلوب بناء منظومة عربية متكاملة تشمل الرصد الإشعاعي المبكر، تأمين مصادر المياه البديلة، تحديث بروتوكولات محطات التحلية، وتوفير قنوات اتصال عاجلة بين الدول المعنية.
التجارب الدولية ليست غائبة عن هذا السياق. فبعد حادثة تشيرنوبل، وضعت دول أوروبا “خطة رد مشترك لحوادث التلوث الإشعاعي العابر للحدود”، تقوم على تبادل المعلومات الفوري وتنسيق الردود التقنية واللوجستية. وفي اليابان، أطلقت الحكومة بعد فوكوشيما برنامجًا تدريبيًا وطنيًا يشمل فرق تدخل سريع، وإجراءات إجلاء دقيقة، ومتابعة بيئية مستمرة استمرت لسنوات.
أما عربيًا، فغياب خطة علنية أو مسار مشترك للتعامل مع خطر نووي محتمل، لا يعكس فقط فجوة في الاستعداد، بل يضاعف من حجم الخطر إذا ما أصبح الاحتمال واقعًا.